سورة آل عمران - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (آل عمران)


        


{إن الدين عند الله الإسلام} أي الملة والشرع، والمعنى: إن الدين المقبول أو النافع أو المقرر.
قرأ الجمهور: إن، بكسر الهمزة وقرأ ابن عباس، والكسائي، ومحمد بن عيسى الأصبهاني: أن، بالفتح، وتقدّمت قراءة ابن عباس: شهد الله إنه، بكسر الهمزة، فأما قراءة الجمهور فعلى الاستئناف، وهي مؤكدة للجملة الأولى.
قال الزمخشري: فان قلت: ما فائدة هذا التوكيد؟
قلت: فائدته أن قوله: لا إله إلاَّ هو توحيد، وقوله: قائماً بالقسط، تعديل، فإذا أردفه قوله: إن الدين عند الله الإسلام، فقد آذن أن الإسلام هو العدل والتوحيد، وهو الدين عند الله، وما عداه فليس عنده بشيء من الدين، وفيه أن من ذهب إلى تشبيه، أو ما يؤدّي إليه، كإجازة الرؤية، أو ذهب إلى الجبر الذي هو محض الجور، لم يكن على دين الله الذي هو الإسلام، وهذا بيِّن جلي كما ترى. انتهى كلامه. وهو على طريقة المعتزلة من إنكار الرؤية، وقولهم: إن أفعال العبد مخلوقة له لا لله تعالى.
وأما قراءة الكسائي ومن وافقه في نصب: أنه، وأن، فقال أبو علي الفارسي: إن شئت جعلته من بدل الشيء من الشيء وهو هو، ألا ترى أن الدين الذي هو الإسلام يتضمن التوحيد والعدل وهو هو في المعنى؟ وإن شئت جعلته من بدل الاشتمال، لأن الإسلام يشتمل على التوحيد والعدل. وقال: وإن شئت جعلته بدلاً من القسط، لأن الدين الذي هو الإسلام قسط وعدل، فيكون أيضاً من بدل الشيء من الشيء، وهما لعين واحدة. انتهت تخريجات أبي علي، وهو معتزلي، فلذلك يشتمل كلامه على لفظ المعتزلة من التوحيد والعدل، وعلى البدل من أنه لا إله إلاَّ هو، خرجه غيره أيضاً وليس بجيد، لأنه يؤدي إلى تركيب بعيدٌ أن يأتي مثله في كلام العرب، وهو: عرف زيد أنه لا شجاع إلاَّ هو، و: بنو تميم، وبنو دارم ملاقياً للحروب لا شجاع إلا هو البطل المحامي، إن الخصلة الحميدة هي البسالة. وتقريب هذا المثال: ضرب زيد عائشة، والعمران حنقاً أختك. فحنقاً: حال من زيد، وأختك بدل من عائشة، ففصل بين البدل والمبدل منه بالعطف، وهو لا يجوز. وبالحال لغير المبدل منه، وهو لا يجوز، لأنه فصل بأجنبي بين المبدل منه والبدل. وخرجها الطبري على حذف حرف العطف، التقدير: وأن الدين. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، ولم يبين وجه ضعفه، ووجه ضعفه أنه متنافر التركيب مع إضمار حرف العطف، فيفصل بين المتعاطفين المرفوعين بالمنصوب المفعول، وبين المتعاطفين المنصوبين بالمرفوع المشارك الفاعل في الفاعلية، وبجملتي الاعتراض، وصار في التركيب دون مراعاة الفصل، نحو: أكل زيد خبزاً وعمرو وسمكاً. وأصل التركيب: أكل زيد وعمرو خبراً وسمكاً.
فإن فصلنا بين قولك: وعمرو، وبين قولك: وسمكاً، يحصل شنع التركيب. وإضمار حرف العطف لا يجوز على الأصح.
وقال الزمخشري: وقرئتا مفتوحتين على أن الثاني بدل من الأول، كأنه قيل: شهد الله أن الدين عند الله الإسلام، والبدل هو المبدل منه في المعنى، فكان بياناً صريحاً، لأن دين الإسلام هو التوحيد والعدل. انتهى. وهذا نقل كلام أبي علي دون استيفاء.
وأما قراءة ابن عباس فخرج على {أن الدين عند الله الإسلام} هو معمول: شهد، ويكون في الكلام اعتراضان: أحدهما: بين المعطوف عليه والمعطوف وهو {أنه لا إله إلا هو} والثاني: بين المعطوف والحال وبين المفعول لشهد وهو {لا إله إلا هو العزيز الحكيم} وإذا أعربنا: العزيز، خبر مبتدأ محذوف، كان ذلك ثلاث اعتراضات، فانظر إلى هذه التوجيهات البعيدة التي لا يقدر أحد على أن يأتي لها بنظير من كلام العرب، وإنما حمل على ذلك العجمة، وعدم الإمعان في تراكيب كلام العرب، وحفظ أشعارها.
وكما أشرنا إليه في خطبة هذا الكتاب: أنه لا يكفي النحو وحده في علم الفصيح من كلام العرب، بل لا بدّ من الأطلاع على كلام العرب، والتطبع بطباعها، والاستكثار من ذلك، والذي خرجت عليه قراءة: أن الدّين، بالفتح هو أن يكون الكلام في موضع المعمول: للحكيم، على إسقاط حرف الجر، أي: بأن، لأن الحكيم فعيل للمبالغة: كالعليم والسميع والخبير، كما قال تعالى {من لدن حكيم خبير} وقال {من لدن حكيم عليم} والتقدير: لا إله إلا هو العزيز الحاكم أن الدّين عند الله الإسلام. ولما شهد تعالى لنفسه بالوحدانية، وشهد له بذلك الملائكة وأولو العلم، حكم أن الدّين المقبول عند الله هو الإسلام، فلا ينبغي لأحد أن يعدل عنه {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} وعدل من صيغة الحاكم إلى الحكيم لأجل المبالغة، ولمناسبة العزيز، ومعنى المبالغة تكرار حكمه بالنسبة إلى الشرائع أن الدين عنده هو الإسلام، إذ حكم في كل شريعة بذلك.
فإن قلت: لم حملت الحكيم على أنه محول من فاعل إلى فعيل للمبالغة، وهلا جعلته فعيلاً بمعنى مفعل، فيكون معناه المحكم، كما قالوا في: أليم، إنه بمعنى مؤلم، وفي سميع من قول الشاعر:
أمن ريحانة الداعي السميع *** أي المسمع
فالجواب: إنا لا نسلم أن فعيلاً يأتي بمعنى مفعل، وقد يؤوّل: أليم وسميع، على غير مفعل، ولئن سلمنا ذلك فهو من الندور والشذوذ والقلة بحيث لا ينقاس، وأما فعيل المحوّل من فاعل للمبالغة فهو منقاس كثير جداً، خارج عن الحصر: كعليم وسميع قدير وخبير وحفيظ، في ألفاظ لا تحصى، وأيضاً فإن العربي القح الباقي على سليقته لم يفهم من حكيم إلاَّ أنه محوّل للمبالغة من حاكم، ألا ترى أنه لما سمع قارئاً يقرأ {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله غفور رحيم} أنكر أن تكون فاصلة هذا التركيب السابق: والله غفور رحيم فقيل له التلاوة: {والله عزيز حكيم} فقال: هكذا يكون عز فحكم، ففهم من حكم أنه محول للمبالغة من حالكم، وفهم هذا العربي حجة قاطعة بما قلناه، وهذا تخريج سهل سائغ جداً، يزيل تلك التكلفات والتركيبات المعقدة التي ينزه كتاب الله عنها.
وأما على قراءة ابن عباس فكذلك نقول، ولا نجعل: أن الدين معمولاً: لشهد، كما فهموا، وأن: أنه لا إله إلاَّ هو، اعتراض، وأنه بين المعطوف والحال وبين: أن الدين، اعتراض آخر، أو اعتراضان، بل نقول: معمول: شهد، إنه بالكسر على تخريج من خرج أن شهد، لما كان بمعنى القول كسر ما بعدها إجراءً لها مجرى القول، أو نقول: إنه معمولها، وعلقت ولم تدخل اللام في الخبر لأنه منفي بخلاف أن لو كان مثبتاً، فإنك تقول: شهدت إن زيداً ألمنطلق، فيعلق بأن مع وجود اللام لأنه لو لم تكن اللام لفتحت أن فقلت: شهدت أن زيداً منطلق، فمن قرأ بفتح: أنه، فإنه لم ينو التعليق، ومن كسر فإنه نوى التعليق. ولم تدخل اللام في الخبر لأنه منفي كما ذكرنا.
والإسلام: هنا الإيمان والطاعات، قاله أبو العالية، وعليه جمهور المتكلمين، وعبر عنه قتادة، ومحمد بن جعفر بن الزبير بالإيمان ومرادهما أنه مع الأعمال. وقرأ عبد الله: إن الدين عند الله الحنيفية.
قال ابن الإنباري: ولا يخفي على ذي تمييز أن هذا كلام من النبي صلى الله عليه وسلم على جهة التفسير، أدخله بعض من ينقل الحديث في القراءات، وقد تقدّم الكلام في الإسلام والإيمان: أهما شيء واحد أم هما مختلفان؟ والفرق ظاهر في حديث سؤال جبريل.
{وما اختلف الذين أوتوا الكتاب} أي: اليهود والنصارى، أو هما والمجوس، أقوال ثلاثة:
فعلى أنهم اليهود، وهو قول الربيع بن أنس، الذين اختلفوا فيه التوراة. قال: لما حضرت موسى عليه السلام الوفاة، استودع سبعين من أحبار بني إسرائيل التوراة عند كل حبر جزء، واستخلف يوشع، فلما مضى ثلاثة قرون وقعت الفرقة بينهم.
وقيل: الذين اختلفوا فيه نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: بعث إلى العرب خاصة، وقال بعضهم: ليس بالنبي المبعوث لأن ذلك حقق في بني إسحاق.
وعلى أنهم النصارى، وهو قول محمد بن جعفر بن الزبير، فالذي اختلفوا فيه: دينهم، أو أمر عيسى، أو دين الإسلام. ثلاثة أقوال.
وقال الزمخشري: هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، واختلفوا أنهم تركوا الإسلام وهو التوحيد والعدل من بعد ما جاءهم العلم أنه الحق الذي لا محيد عنه، فثلثت النصارى {وقالت اليهود عزير بن الله}، وقالوا: كنا أحق بأن تكون النبوة فينا من قريش لأنهم أمّيون، ونحن أهل كتاب، وهذا تجوير لله تعالى.
إنتهى.
ثم قال: وقيل: اختلافهم في نبوة محمد عليه السلام، حيث آمن به بعض وكفر بعض، وقيل: اختلافهم في الإيمان بالأنبياء فمنهم من آمن بموسى، ومنهم من آمن بعيسى. انتهى.
والذي يظهر أن اللفظ عام في {الذين أوتوا الكتاب} وأن المختلف فيه هو: الإسلام، لأنه تعالى قرر أن الدين هو الإسلام، ثم قال: {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب} أي: في الإسلام حتى تنكبوه إلى غيره من الأديان.
{إلا من بعد ما جآءهم العلم} الذي هو سبب لاتباع الإسلام، والاتفاق على اعتقاده، والعمل به، لكن عموا عن طريق العلم وسلوكه بالبغي الواقع بينهم من الحسد، والاسئثار بالرياسة، وذهاب كل منهم مذهباً يخالف الإسلام حتى يصير رأساً يتبع فيه، فكانوا ممن ضل على علم. وقد تقدّم ما يشبه هذا من قوله {وما اختلف فيه الا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات}
{بغياً بينهم} وإعراب: بغياً، فإنه أتى بعد إلاَّ شيئان ظاهرهما أنهما مستثنيان، وتخريج ذلك: فأغنى عن إعادته هنا.
{ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب} هذا عام في كل كافر بآيات الله، فلا يخص بالمختلفين من أهل الكتاب، وإن جاءت الجملة الشرطية بعد ذكرهم.
وآياته، هنا قيل: حججه، وقيل: التوراة والإنجيل وما فيهما من وصف نبينا صلى الله عليه وسلم. وقيل: القرآن، وقال الماتريدي: أي من المختلفين.
وتقدّم تفسير: سريع الحساب، فأغنى عن إعادته، وهذه الجملة جواب الشرط والعائد منها على إسم الشرط محذوف تقديره: سريع الحساب له.
{فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله} الضمير في: حاجوك، الظاهر أنه يعود على {الذين أوتوا الكتاب} وقال أبو مسلم: يعود على جميع الناس، لقوله بعد {وقل للذين أوتوا الكتاب والأمّيين} وقيل: يعود على نصارى نجران، قدموا المدينة للمحاجة. وظاهر المحاج فيه أنه دين الإسلام، لأنه السابق. وجواب الشرط هو: {فقل أسلمت وجهي لله} والمعنى: انقدت وأطعت وخضعت لله وحده، وعبر: بالوجه، عن جميع ذاته، لأن الوجه أشرف الأعضاء، وإذا خضع الوجه فما سواه أخضع وقال المروزي، وسبقه الفراء إلى معناه: معنى أسلمت وجهي، أي: ديني، لأن الإيمان كالوجه بين الأعمال إذ هو الأصل، وجاء في التفسير أقوال لكم، كما قال ابن نعيم: وقد أجمعتم على أنه محق {قَال ياقوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين}
وقال الزمخشري: وأسلمت وجهي، أي: أخلصت نفسي وعملي لله وحده، لم أجعل له شريكاً بأن أعبده وأدعوا إلها معه، يعني: أن ديني التوحيد، وهو الدين القديم الذي ثبت عندكم صحته، كما ثبت عندي. وما جئت بشيء بديع حتى تجادلوني فيه، ونحوه {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة} الآية، فهو دفع للمجادلة. إنتهى.
وفي تفسيره أطلق الوجه على النفس والعمل معاً، إلاَّ إن كان أراد تفسير المعنى لا تفسير اللفظ، فيسوغ له ذلك.
وقال الرازي: في كيفية إيراد هذا الكلام طريقان:
الأول: أنه إعراض عن المحاجة، إذ قد أظهر لهم الحجة على صدقه قبل نزول هذه الآية، فإن هذه السورة مدنية، وذلك بإظهار المعجزات بالقرآن وغيره، وقد ذكر قبل هذه الآية الحجة بقوله: {الحيّ القيوم} على فساد قول النصارى في إلهية عيسى، وبقوله {نزل عليك الكتاب} على صحة نبوّته، وذكر شُبَهَ القوم وأجاب عنها، وذكر معجزات أخرى، وهي ما شاهدوه يوم بدر، بين القول بالتوحيد بقوله: شهد الله.
والطريق الثاني: أنه إظهار للدليل، وذلك أنهم كانوا مقرين بالصانع واستحقاقه للعبادة فكأنه قال: أنا متمسك بهذا القدر المتفق عليه، والخلف فيما وراءه، وعلى المدعي الإثبات. وأيضاً كانوا معظمين إبراهيم عليه السلام وأنه كان محقاً، وقد أمر أن يتبع ملته، وهنا أمر أن يقول كقوله، فيكون هذا من باب الإلزام، أي: أنا متمسك بطريق من هو عندكم محق، وهذا قاله أبو مسلم، وأيضاً لما تقدّم أن الدين هو الإسلام، قيل له: إن نازعوك فقل: الدليل عليه أني أسلمت وجهي لله، فهذا تمام الوفاء بلزوم الربوبية والعبودية، فصح أن الدين الكامل الإسلام، وأيضاً فالآية مناسبة لقول إبراهيم {لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر} أي: لا تجوز العبادة إلاَّ لمن يكون نافعاً وضاراً وقادراً على جميع الأشياء، وعيسى ليس كذلك، وأيضاً فهذه إشارة إلى طريقة إبراهيم عليه السلام {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين} وروي هذا عن ابن عباس. إنتهى ما لخص من كلام الرازي. وليس أواخر كلامه بظاهرة من مراد الآية ومدلولها.
وفتح الياء: من: وجهي، هنا، وفي الأنعام نافع، وابن عامر، وحفص، وسكنها الباقون.
{ومن اتبعن} قيل: من، في موضع رفع، وقيل: في موضع نصب على أنه مفعول معه، وقيل: في موضع خفض عطفاً على اسم الله.
ومعناه: جعلت مقصدي بالإيمان به، والطاعة له، ولمن اتبعني بالحفظ له، والتحفي بتعلمه، وصحته.
فأما الرفع فعطفاً على الفاعل في: أسلمت، قاله الزمخشري، وبدأ به قال: وحسن للفاصل، يعنى أنه عطف على الضمير المتصل، ولا يجوز العطف على الضمير المتصل المرفوع إلاَّ في الشعر، على رأي البصريين. إلاَّ أنه فصل بين الضمير والمعطوف، فيحسن. وقاله ابن عطية أيضاً، وبدأ به. ولا يمكن حمله على ظاهره لأنه إذا عطف على الضمير في نحو: أكلت رغيفاً وزيد، لزم من ذلك أن يكونا شريكين في أكل الرغيف، وهنا لا يسوغ ذلك، لأن المعنى ليس على أنهم أسلموا هم وهو صلى الله عليه وسلم وجهه لله، وإنما المعنى: أنه صلى الله عليه وسلم أسلم وجهه لله، وهم أسلموا وجوههم لله، فالذي يقوى في الإعراب أنه معطوف على ضمير محذوف منه المفعول، لا مشارك في مفعول: أسلمت، التقدير: ومن اتبعني وجهه.
أو أنه مبتدأ محذوف الخبر لدلالة المعنى عليه، ومن اتبعني كذلك، أي: أسلموا وجوههم لله، كما تقول: قضى زيد نحبه وعمرو، أي: وعمرو كذلك. أي: قضى نحبه.
ومن الجهة التي امتنع عطف. ومن، على الضمير إذا حمل الكلام على ظاهره دون تأويل، يمتنع كون: من، منصوباً على أنه مفعول معه، لأنك إذا قلت: أكلت رغيفاً وعمراً، أي: مع عمرو، دل ذلك على أنه مشارك لك في أكل الرغيف، وقد أجاز هذا الوجه الزمخشري، وهو لا يجوز لما ذكرنا على كل حال، لأنه لا يمكن تأويل حذف المفعول مع كون الواو واو المعية.
وأثبت ياء: اتبعني، في الوصل أبو عمرو، ونافع، وحذفها الباقون، وحذفها أحسن لموافقة خط المصحف، ولأنها رأس آية كقوله: أكرمن وأهانن، فتشبه قوافي الشعر كقول الشاعر:
وهل يمنعنّي ارتيادُ البلا *** د من حذر الموت أن يأتيَنْ
{وقل للذين أوتوا الكتاب} هم: اليهود والنصارى باتفاق {والأمّيين} هم مشركو العرب، ودخل في ذلك كل من لا كتاب له {أأسلمتم} تقدير في ضمنه الأمر. وقال الزجاج: تهدّد. قال ابن عطية: وهذا حسن، لأن المعنى: أأسلمتم له أم لا؟ وقال الزمخشري: يعني أنه قد أتاكم من البينات ما يوجب الإسلام ويقتضى حصوله لا محالة، فهل أسلمتم أم أنتم على كفركم؟ وهذا كقولكم لمن لخصت له المسألة، ولم تبقِ من طرق البيان والكشف طريقاً إلاَّ سلكته، هل فهمتها لا أمّ لك؟ ومنه قوله عز وعلا: {فهل أنتم منتهون} بعد ما ذكر الصوارف عن الخمر والميسر، وفي هذا الاستفهام استقصار وتغيير بالمعاندة وقلة الإنصاف، لأن المنصف إذا تجلت له الحجة ولم يتوقف إذعانه للحق، وللمعاند بعد تجلي الحجة ما يضرب أسداداً بينه وبين الإذعان، وكذلك في: هل فهمتها؟ توبيخ بالبلادة وكله القريحة، وفي {فهل أنتم منتهون} بالتقاعد عن الانتهاء والحرص الشديد على تعاطي المنهي عنه. انتهى كلامه. وهو حسن، وأكثره من باب الخطابة.
{فإن أسلموا فقد اهتدوا} أي إن دخلوا في الإسلام فقد حصلت لهم الهداية، وعبر بصيغة الماضي المصحوب بقد الدالة على التحقيق مبالغة في الإخبار بوقوع الهدى، ومن الظلمة إلى النور. انتهى.
{وإن تولوا فإنما عليك البلاغ} أي: هم لا يضرونك بتوليهم، وما عليك أنت إلاَّ تنبيههم بما تبلغه إليهم من طلب إسلامهم وانتظامهم في عبادة الله وحده، وقيل: إنها آية مواعدة منسوخة بآية السيف، ولا نحتاج إلى معرفة تاريخ النزول، وإذا نظرت إلى سبب نزول هذه الآيات، وهو وفود وفد نجران، فيكون المعنى: فإنما عليك البلاغ بقتالٍ وغيره.
{والله بصير بالعباد}. وفيه وعيد وتهديد شديد لمن تولى عن الإسلام، ووعد بالخير لمن أسلم، إذ معناه: إن الله مطلع على أحوال عبيده فيجازيهم بما تقتضي حكمته.
{إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين} الآية هي في اليهود والنصارى، قاله محمد بن جعفر بن الزبير وغيره، وصف من تولى عن الإسلام وكفر بثلاث صفات:
إحداهما: كفره بآيات الله وهم مقرون بالصانع، جعل كفرهم ببعض مثل كفرهم بالجميع، أو يجعل: بآيات الله، مخصوصاً بما يسبق إليه الفهم من القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم.
الثانية: قتلهم الأنبياء، وقد تقدّمت كيفية قتلهم في البقرة في قوله {ويقتلون النبيين بغير الحق} والألف واللام في: النبيين، للعهد.
والثالثة: قتل من أمر بالعدل.
فهذه ثلاثة أوصاف بدئ فيها بالأعظم فالأعظم، وبما هو سبب للآخر: فأولها: الكفر بآيات الله، وهو أقوى الأسباب في عدم المبالاة بما يقع من الأفعال القبيحة، وثانيها: قتل من أظهر آيات الله واستدل بها. والثالث: قتل أتباعهم ممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
وهذه الآية جاءت وعيداً لمن كان في زمانه صلى الله عليه وسلم، ولذلك جاءت الصلة بالمستقبل، ودخلت الفاء في خبر: أن، لأن الموصول ضمن معنى اسم الشرط، ولما كانوا على طريقة أسلافهم في ذلك، نسب إليهم ذلك، ولأنهم أرادوا قتله صلى الله عليه وسلم، فقتل أتباعه، فأطلق ذلك عليهم مجازاً أي: من شأنهم وإرادتهم ذلك. ويحتمل أن تكون الفاء زائدة على مذهب من يرى ذلك، وتكون هذه الجملة حكاية عن حال آبائهم وما فعلوه في غابر الدهر من هذه الأوصاف القبيحة، ويكون في ذلك إرذال لمن انتصب لعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ هم سالكون في ذلك طريقة آبائهم.
والمعنى: إن آباءكم الذين أنتم مستمسكون بدينهم كانوا على الحالة التي أنتم عالمون بها من الاتصاف بهذه الأوصاف، فينبغي لكم أن تسلكوا غير طريقهم، فإنهم لم يكونوا على حق. فذكر تقبيح الأوصاف، والتوعد عليها بالعقاب، مما ينفر عنها، ويحمل على التحلي بنقائضها من الإيمان بآيات الله وإجلال رسله وأتباعهم.
وقرأ الحسن: ويقتلون النبيين، بالتشديد، والتشديد هنا للتكثير بحسب المحل وقرأ حمزة، وجماعة من غير السبعة: ويقاتلون الثاني. وقرأها الأعمش: وقاتلوا الذين، وكذا هي في مصحف عبد الله وقرأ أبيّ: يقتلون النبيين والذين يأمرون، ومن غاير بين الفعلين فمعناه واضح إذا لم يذكر أحدهما على سبيل التوكيد، ومن حذف اكتفى بذكر فعل واحد لأشتراكهم في القتل، ومن كرر الفعل فذلك على سبيل عطف الجمل وابراز كل جملة في صورة التشنيع والتفظيع، لأن كل جملة مستقلة بنفسها، أو لاختلاف ترتب العذاب بالنسبة على من وقع به الفعل، فقتل الأنبياء أعظم من قتل من يأمر بالمعروف من غير الأنبياء، فجعل القتل بسبب اختلاف مرتبته كأنهما فعلان مختلفان.
وقيل: يحتمل أن يراد بأحد القتلين تفويت الرّوح، وبالآخر الإهانة وإماتة الذكر، فيكونان إذ ذاك مختلفين.
وجاء في هذه السورة {بغير حق} بصيغة التنكير، وفي البقرة {بغير الحق} بصيغة التعريف، لأن الجملة هنا أخرجت مخرج الشرط، وهو عام لا يتخصص، فناسب أن يكون المنفي بصيغة التنكير حتى يكون عاماً، وفي البقرة جاء ذلك في صورة الخبر عن ناس معهودين، وذلك قوله
{ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق} فناسب أن يأتي بصيغة التعريف، لأن الحق الذي كان يستباح به قتل الأنفس عندهم كان معروفاً، كقوله {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} فالحق هنا الذي تقتل به الأنفس معهود معروف، بخلاف ما في هذه السورة.
وقد تقدّم في البقرة أن قوله: {بغير الحق} هي حال مؤكدة، إذ لا يقع قتل نبي إلاَّ بغير الحق، وأوضحنا لك ذلك. فأغنى عن إعادته وإيضاحه هنا.
ومعنى: من الناس، أي: غير الأنبياء، إذ لو قال: ويقتلون الذين يأمرون بالقسط، لكان مندرجاً في ذلك الأنبياء لصدق اللفظ عليهم، فجاء من الناس بمعنى: من غير الأنبياء. قال الحسن: تدل الآية على أن القائم بالأمر بالمعروف تلي منزلته في العظم منزلة الأنبياء. وعن أبيه عبيدة بن الجراح، قلت يا رسول الله: أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة؟ قال: «رجل قتل نبياً أو رجل أمر بمنكر ونهى عن معروف» ثم قرأها. ثم قال: «يا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة واثنا عشر رجلاً من عباد بني اسرائيل، فأمروا قتلتهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً من آخر النهار».
{فبشرهم بعذاب أليم} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو يدل على أن المراد معاصروه لا آباؤهم، فيكون إطلاق قتل الأنبياء مجازاً لأنهم لم يقتلوا أنبياء لكهنم رضوا ذلك وراموه.
وهذه الجملة هي خبر: إن، ودخلت الفاء لما يتضمن الموصول من معنى اسم الشرط كما قدّمناه، ولم يعب بهذا الناسخ لأنه لم يغير معنى الابتداء، أعني: إن.
ومع ذلك في المسألة خلاف: الصحيح جواز دخول الفاء في خبر: إن، إذا كان اسمها مضمناً معنى الشرط، وقد تقدّمت شروط جواز دخول الفاء في خبر المبتدأ، وتلك الشروط معتبرة هنا، ونظير هذه الآية في دخول الفاء {إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم} {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم} {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم}
ومن منع ذلك جعل الفاء زائدة، ولم يقس زيادتها. وتقدم أن البشارة هي أول خبر سار، فإذا استعملت مع ما ليس بسار، فقيل: ذلك هو على سبيل التهكم والاستهزاء كقوله:
تحية بينهم ضرب وجيع ***
أي: القائم لهم مقام الخبر السار هو العذاب الأليم وقيل: هو على معنى تأثر البشرة من ذلك، فلم يؤخذ فيه قيد السرور، بل لوحظ معنى الاشتقاق.
{أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة}. تقدم تفسير هذه الجملة عند قوله ومن {يرتدد منكم عن دينه} فأغنى عن إعادته.
وقرأ ابن عباس، وأبو السمال: حبطت، بفتح الباء وهي لغة.
{وما لهم من ناصرين} مجيء الجمع هنا أحسن من مجيء الإفراد، لأنه رأس آية، ولأنه بإزاء من للمؤمنين من الشفعاء الذين هم الملائكة والأنبياء وصالحو المؤمنين، أي: ليس لهم كأمثال هؤلاء، والمعنى: بانتفاء الناصرين انتفاء ما يترتب على النصر من المنافع والفوائد، وإذا انتفت من جمع فانتفاؤها من واحد أَولى، وإذا كان جمع لا ينصر فأحرى أن لا ينصر واحد، ولما تقدم ذكر معصيتهم بثلاثة أوصاف ناسب أن يكون جزاؤهم بثلاثة، ليقابل كل وصف بمناسبه، ولما كان الكفر بآيات الله أعظم، كان التبشير بالعذاب الأليم أعظم، وقابل قتل الأنبياء بحبوط العمل في الدنيا والأخرة، ففي الدنيا بالقتل والسبي وأخذ المال والاسترقاق، وفي الآخرة بالعقاب الدائم، وقابل قتل الآمرين بالقسط، بانتفاء الناصرين عنهم إذا حل بهم العذاب، كما لم يكن للآمرين بالقسط من ينصرهم حين حل بهم قتل المعتدين، كذلك المعتدون لا ناصر لهم إذا حل بهم العذاب.
وفي قوله: أولئك، إشارة إلى من تقدم موصوفاً بتلك الأوصاف الذميمة، وأخبر عنه: بالذين، إذ هو أبلغ من الخبر بالفعل، ولأن فيه نوع انحصار، ولأن جعل الفعل صلة يدل على كونها معلومة للسامع، معهودة عنده، فإذا أخبرت بالموصول عن اسم استفاد المخاطب أن ذلك الفعل المعهود المعلوم عنده المعهود هو منسوب للمخبر عنه بالموصول، بخلاف الإخبار بالفعل، فإنك تخبر المخاطب بصدوده عن من أخبرت به عنه، ولا يكون ذلك الفعل معلوماً عنده، فإن كان معلوماً عنده جعلته صلة، وأخبرت بالموصول عن الأسم.
قيل وجمعت هذه الآيات ضروباً من الفصاحة والبلاغة. أحدهما: التقديم والتأخير في: {إن الدين عند الله الإسلام} قال ابن عباس التقدير: شهد الله أن الدين عند الله الاسلام، أنه لا إله إلا هو، ولذلك قرأ إنه، بالكسر: وأن الدين، بالفتح.
وأطلق اسم السبب على المسبب في قوله {من بعد ما جاءهم العلم} عبر بالعلم عن التوراة والإنجيل أو النبي صلى الله عليه وسلم، على الخلاف الذي سبق.
وإسناد الفعل إلى غير فاعله في: {حبطت أعمالهم} وأصحاب النار.
والإيماء في قوله: {بغياً بينهم} فيه إيماء إلى أن النفي دائر شائع فيهم، وكل فرقة منهم تجاذب طرفاً منه.
والتعبير ببعض عن كل في: {أسلمت وجهي}.
والاستفهام الذي يراد به التقرير أو التوبيخ والتقريع في قوله {أأسلمتم}.
والطباق المقدر في قوله: {فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ} ووجهه: أن الإسلام الانقياد إلى الإسلام، والإقبال عليه، والتولي ضد الإقبال. والتقدير: وإن تولوا فقد ضلوا، والضلالة ضد الهداية.
والحشو الحسن في قوله {بغير حق} فإنه لم يقتل قط نبي بحق، وإنما أتى بهذه الحشوة ليتأكد قبح قتل الأنبياء، ويعظم أمره في قلب العازم عليه.
والتكرار في {ويقتلون الذين} تأكيداً لقبح ذلك الفعل.
والزيادة في {فبشرهم} زاد الفاء إيذاناً بأن الموصول ضمن معنى الشرط.
والحذف في مواضع قد تكلمنا عليها فيما سبق.


غَر، يغر، غروراً: خدع والغِر: الصغير، والغريرة: الصغيرة، سميا بذلك لأنهما ينخدعان بالعجلة، والغِرة منه يقال: أخذه على غرة، أي: تغفل وخداع، والغُرة: بياض في الوجه، يقال منه: وجه أغر، ورجل أغر، وامرأة غراء. والجمع على القياس فيهما غُر. قالوا: وليس بقياس: وغران. قال الشاعر:
ثياب بني عوف طهارى نقية *** وأوجههم عند المشاهد غران
نزع ينزع: جذب، وتنازعنا الحديث تجاذبناه، ومنه: نزاع الميت، ونزع إلى كذا: مال إليه وانجذب، ثم يعبر به عن الزوال، يقال: نزع الله عنه الشر: أزاله.
ولج يلج ولوجاً ولجة وولجاً، وولج تولجاً وأتلج إتلاجاً قال الشاعر:
فإن القوافي يتَّلجْن موالجاً *** تضايق عنها أن تولجها الإبر
الامد: غاية الشيء، ومنتهاه، وجمعه آماد.
اللهم: هو الله إلاَّ أنه مختص بالنداء فلا يستعمل في غيره، وهذه الميم التي لحقته عند البصريين هي عوض من حرف النداء، ولذلك لا تدخل عليه إلاَّ في الضرورة. وعند الفراء: هي من قوله: يا الله أمنا بخير، وقد أبطلوا هذا النصب في علم النحو، وكبرت هذه اللفظة حتى حذفوا منها: أل، فقالوا: لا همّ، بمعنى: اللهمّ. قال الزاجر:
لا هم إني عامر بن جهم *** أحرم حجاً في ثياب دسم
وخففت ميمها في بعض اللغات قال:
كَحَلْفَة من أبي رياح *** يسمعها اللَّهُمَ الكُبار
الصدر: معروف، وجمعه: صدور.
{ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب} قال السدّي: دعا النبي صلى الله عليه وسلم اليهود إلى الإسلام، فقال له النعمان بن أبي أوفى: هلم نخاصمك إلى الأحبار. فقال: «بل إلى كتاب الله». فقال: بل إلى الأحبار. فنزلت. وقال ابن عباس: دخل صلى الله عليه وسلم إلى المدارس على اليهود، فدعاهم إلى الله، فقال نعيم بن عمرو، والحارث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ فقال: «على ملة إبراهيم». قالا: إن إبراهيم كان يهودياً. فقال صلى الله عليه وسلم: «فهلموا إلى التوراة». فأبيا عليه، فنزلت.
وقالَ الكلبي: زنى رجل منهم بامرأة ولم يكن بعد في ديننا الرجم، فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تخفيفاً للزانيين لشرفهما، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنما أحكم بكتابكم» فأنكروا الرجم، فجيء بالتوراة، فوضع حبرهم، ابن صوريا، يده على آية الرجم، فقال عبد الله بن سلام: جاوزها يا رسول الله، فأظهرها فرُجما.
وقال النقاش: نزلت في جماعة من اليهود أنكروا نبوّته، فقال لهم: «هلموا إلى التوراة ففيها صفتي» وقال مقاتل: دعا جماعة من اليهود إلى الإسلام، فقالوا: نحن أحق بالهدى منك، وما أرسل الله نبياً إلا من بين إسرائيل، قال: «فأخرجوا التوراة فإني مكتوب فيها أني نبي» فأبوا، فنزلت {والذين أوتوا نصيباً من الكتاب} هم: اليهود، والكتاب: التوراة.
وقال مكي وغيره: اللوح المحفوظ، وقيل: {من الكتاب} جنس للكتب المنزلة، قاله ابن عطية، وبدأ به الزمخشري و: من، تبعيض.
وفي قوله: نصيباً، أي: طرفاً، وظاهر بعض الكتاب، وفي ذلك إذ هم لم يحفظوه ولم يعلموا جميع ما فيه.
{يدعون إلى كتاب الله} هو: التوراة، وقال الحسن، وقتادة، وابن جريح: القرآن. و: يدعون، في موضع الحال من الذين، والعامل: تر، والمعنى: ألا تعجب من هؤلاء مدعوين إلى كتاب الله؟ أي: في حال أن يدعوا إلى كتاب الله {ليحكم بينهم} أي: ليحكم الكتاب. وقرأ الحسن، وأبو جعفر، وعاصم الجحدري: ليُحكم، مبيناً للمفعول والمحكوم فيه هو ما ذكر في سبب النزول.
{ثم يتولى فريق منهم} هذا استبعاد لتوليهم بعد علمهم بأن الرجوع إلى كتاب الله واجب، ونسب التولي إلى فريق منهم لا إلى جميع المبعدين، لأن منهم من أسلم ولم يتول كابن سلام وغيره.
{وهم معرضون} جملة حالية مؤكدة لأن التولي هو الإعراض، أو مبينة لكون التولي عن الداعي، والإعراض عما دعا إليه، فيكون المتعلق مختلفاً، أو لكون التولي بالبدن والإعراض بالقلب، أو لكون التولي من علمائهم والإعراض من أتباعهم، قاله ابن الأنباري. أو جملة مستأنفة أخبر عنهم قوم لا يزال الإعراض عن الحق وأتباعه من شأنهم وعادتهم، وفي قوله: {بينهم} دليل على أن المتنازع فيه كان بينهم واقعاً لا بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو خلاف ما ذكر في أسباب النزول، فإن صح سبب منها كان المعنى: ليحكم بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن لم يصح حمل على الاختلاف الواقع بين من أسلم من أحبارهم وبين من لم يسلم، فدعوا إلى التوراة التي لا اختلاف في صحتها عندكم، ليحكم بين المحق والمبطل، فتولى من لم يسلم.
قيل وفي هذه الآية دليل على صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم ولولا علمهم بما ادّعاه في كتبهم من نعته وصحة نبوته، لما أعرضوا وتسارعوا إلى موافقة ما في كتبهم، حتى ينبئوا عن بطلان دعواه. وفيها دليل على أن من دعاه خصمه إلى الحكم الحق لزمته إجابته لأنه دعاه إلى كتاب الله، ويعضده: {وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون}
قال القرطبي: وإذا دعي إلى كتاب الله وخالف تعين زجره بالأدب على قدر المخالِف، والمخالَف. وهذا الحكم جارٍ عندنا بالأندلس وبلاد المغرب، وليس بالديار المصرية.
قال ابن خويزمنداد المالكي: واجب على من دعي إلى مجلس الحكم أن يجيب ما لم يعلم أن الحاكم فاسق.
{ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات} الإشارة بذلك إلى التولي، أي: ذلك التولي بسبب هذه الأقوال الباطلة، وتسهيلهم على أنفسهم العذاب، وطمعهم في الخروج من النار بعد أيام قلائل.
وقال الزمخشري: كما طمعت الجبرية والحشوية.
{وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون} من أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، كما غرى أولئك بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كبائرهم. إنتهى كلامه. وهو على عادته من اللهج بسب أهل السنة والجماعة، ورميهم بالتشبيه، والخروج إلى الطعن عليهم بأي طريق أمكنه.
وتقدّم تفسير هذه: الأيام المعدودات، في سورة البقرة فأغنى عن إعادته هنا، إلاَّ أنه جاء هناك: معدودة، وهنا: معدودات، وهما طريقان فصيحان تقول: جبال شامخة، وجبال شامخات. فتجعل صفة جمع التكسير للمذكر الذي لا يعقل تارة لصفة الواحدة المؤنثة، وتارة لصفة المؤنثات. فكما تقول: نساء قائمات، كذلك تقول: جبال راسيات، وذلك مقيس مطرد فيه.
{وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون} قال مجاهد: الذي افتروه هو قولهم: {لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات} وقال قتادة: بقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه. وقيل: {لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى} وقيل: مجموع هذه الأقوال.
وارتفع: ذلك، بالابتداء، و: بأنهم، هو الخبر، أي: ذلك الإعراض والتولي كائن لهم وحاصل بسبب هذا القول، وهو قولهم: إنهم لا تمسهم النار إلاَّ أياماً قلائل، يحصرها العدد. وقيل: خبر مبتدأ محذوف، أي: شأنهم ذلك، أي التولي والإعراض، قاله الزجاج. وعلى هذا يكون: بأنهم، في موضع الحال، أي: مصحوباً بهذا القول، و: ما في: ما كانوا، موصولة، أو مصدرية.
{فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه} هذا تعجيب من حالهم، واستعظام لعظم مقالتهم حين اختلفت مطامعهم، وظهر كذب دعواهم، إذ صاروا إلى عذاب ما لهم حيلة في دفعه، كما قال تعالى: {تلك أمانيهم} هذا الكلام يقال عند التعظيم لحال الشيء، فكيف إذا توفتهم الملائكة؟ وقال الشاعر:
فكيف بنفس كلما قلت أشرفت *** على البرء من دهم


نوح: اسم أعجمي مصروف عند الجمهور وإن كان فيه ما كان يقتضي منع صرفه وهو: العلمية والعجمة الشخصية، وذلك لخفة البناء بكونه ثلاثياً ساكن الوسط لم يضف إليه سبب آخر، ومن جوز فيه الوجهين فبالقياس على هذا لا بالسماع، ومن ذهب إلى أنه مشتق من النواح فقوله ضعيف، لأن العجمة لا يدخل فيها الاشتقاق العربي إلاَّ إِنْ ادعى أنه مما اتفقت فيه لغة العرب ولغة العجم، فيمكن ذلك. ويسمى: آدم الثاني واسمه السكن، قاله غير واحد، وهو ابن لملك بن متوشلخ بن اخنوخ بن سارد بن مهلابيل بن قينان بن انوش بن شيث بن آدم.
عمران: اسم أعجمي ممنوع الصرف للعلمية والعجمة، ولو كان عربياً لامتنع أيضاً للعلمية، وزيادة الألف والنون إذ كان يكون اشتقاقه من العمر واضحاً.
محرراً: اسم مفعول من حرر، ويأتي اختلاف المفسرين في مدلوله في الآية، والتحرير: العتق، وهو تصيير المملوك حراً.
الوضع: الحط والإلقاء، تقول: وضع يضع وضعاً وضعة، ومنه الموضع.
الأنثى والذكر: معروفان، وألف أنثى للتأنيث، وجمعت على إناث، كربى ورباب، وقياس الجمع: أناثى، كحبلى وحبالى. وجمع الذكر: ذكور وذكران.
مريم: اسم عبراني، وقيل عربي جاء شاذاً: كمدين، وقياسه: مرام كمنال، ومعناه في العربية التي تغازل الفتيان، قال الراجز:
قلت لزيد لم تصله مريمه ***
عاذ بكذا: اعتصم به، عوذاً وعياذاً ومعاذاً ومعاذة ومعناه: التجأ واعتصم وقيل: اشتقاقه من العوذ وهو: عوذ يلجأ إليه الحشيش في مهب الريح.
رجم: رمى وقذف، ومنه {رجماً بالغيب} أي: رمياً به من غير تيقن، والحديث المرجم هو: المظنون ليس فيه يقين.
والرجيم: يحتمل أن يكون للمبالغة من فاعل، أي إنه يرمي ويقذف بالشر والعصيان في قلب ابن آدم، ويحتمل أن يكون بمعنى: مرجوم، أي يُرجم بالشهب أو يبعد ويطرد.
الكفالة: الضمان، يقال: كفل يكفل فهو كافل وكفيل، هذا أصله ثم يستعار للضم والقيام على الشيء.
زكريا: أعجمي شبه بما فيه الألف الممدودة والألف المقصورة فهو ممدود ومقصور، ولذلك يمتنع صرفه نكرة، وهاتان اللغتان فيه عند أهل الحجاز، ولو كان امتناعه للعلمية والعجمة انصرف نكرة. وقد ذهب إلى ذلك أبو حاتم، وهو غلط منه، ويقال: ذكرى بحذف الألف، وفي آخره ياء كياء بحتى، منونة فهو منصرف، وهي لغة نجد، ووجهه فيما قال أبو علي؛ إنه حذف ياءي الممدود والمقصور، وألحقه ياءي النسب يدل على ذلك صرفه، ولو كانت الياآن هما اللتين كانتا في زكريا لوجب أن لا يصرف للعجمة والتعريف. انتهى كلامه. وقد حكي: ذكر على وزن: عمر، وحكاها الأخفش.
المحراب: قال أبو عبيدة: سيد المجالس وأشرفها ومقدمها، وكذلك هو من المسجد، وقال الاصمعي: الغرفة وقال:
وماذا عليه إن ذكرت أوانساً *** كغزلان رمل في محاريب أقيالِ
شرحه الشراح في غرف أقيال وقال الزجاج: الموضع العالي الشريف وقال أبو عمرو بن العلاء: القصر، لشرفه وعلوه وقيل: المسجد وقيل: محرابه المعهود سمي بذلك لتحارب الناس عليه وتنافسهم فيه، وهو مقام الإمام من المسجد.
هنا: اسم إشارة للمكان القريب، والتزم فيه الظرفية إلاَّ أنه يجر بحرف الجر، فإن ألحقته كاف الخطاب دل على المكان البعيد. وبنو تميم تقول: هناك، ويصح دخول حرف التنبيه عليه إذا لم تكن فيه اللام، وقد يراد بها ظرف الزمان.
النداء: رفع الصوت، وفلان أندى صوتاً، أي أرفع، ودار الندوة لأنهم كانوا ترتفع أصواتهم بها، والمنتدى والنادي مجتمع القوم منه، ويقال: نادى مناداة ونِداء ونُداء، بكسر النون وضمها قيل: فبالكسر المصدر، وبالضم اسم، وأكثر ما جاءت الأصوات على الضم: كالدُعاء والرُغاء والصُراخ وقال يعقوب: يمد مع كسر النون، ويقصر مع ضمها. والندى: المطر، يقال منه ندى يندى ندى.
يحيي: اسم أعجمي امتنع الصرف للعجمة والعلمية، وقيل: هو عربي، وهو فعل مضارع من: حيى، سمي به فامتنع الصرف للعلمية ووزن الفعل، وعلى القولين يجمع على: يحيون، بحذف الألف وفتح ما قبلها على مذهب الخليل، وسيبويه ونقل عن الكوفيين: إن كان عربياً فتحت الياء، وإن كان أعجمياً ضمت الياء.
سيد: فيعل من: ساد، أي: فاق في الشرف، وتقدم الكلام في نظير هذا، وجمعه على: فعلة، فقالوا: سادة، شاذ وقال الراغب: هو السايس بسواد الناس، أي: معظمهم، ولهذا يقال: سيد العبد، ولا يقال سيد الثوب. انتهى.
الحصور: فعول من الحصر، وهو للمبالغة من حاصر وقيل: فعول بمعنى مفعول، أي محصور، وهو في الآية بمعنى الذي لا يأتي النساء.
الغلام: الشاب من الناس، وهو الذي طرّ شاربه، ويطلق على الطفل على سبيل التفاؤل، وعلى الكهل ومنه قول ليلى الأخيلية:
شفاها من الداء العضال الذي بها *** غلام إذا هز القناة سقاها
تسمية بما كان عليه قبل الكهولة، وهو من الغلمة والاغتلام، وذلك شدة طلب النكاح. ويقال: اغتلم الفحل: هاج من شدة شهوة الضراب، واغتلم البحر: هاج وتلاطمت أمواجه، وجمعه على، غلمة، شاذ وقياسه في القلة: أغلمة، وجمع في الكثرة على: غلمان، وهو قياسه: الكبر، مصدر: كبر يكبر من السن قال:
صغيرين نرعى البهم يا ليت إننا *** إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهمُ
العاقر: من لا يولد له من رجل أو امرأة، وفعله لازم، والعاقر اسم فاعل من عقر أي: قتل، وهو متعد.
الرمز: الإشارة باليد أو بالرأس أو بغيرهما وأصله التحرك يقال ارتمز تحرك ومنه قيل للبحر الراموز.
العشي: مفرد عشية، كركيّ. وركية والعشية: أواخر النهار، ولامها واو، فهي كمطي.
الإبكار: مصدر أبكر، يقال أبكر: خرج بكرة.
{إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} قال ابن عباس: قالت اليهود: نحن أبناء إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب. ونحن على دينهم، فنزلت. وقيل: في نصارى نجران لما غلوا في عيسى، وجعلوه، ابن الله تعالى، واتخذوه إلهاً، نزلت رداً عليهم، وإعلاماً أن عيسى من ذرية البشر المتنقلين في الأطوار المستحيلة على الإله، واستطرد من ذلك إلى ولادة أمه، ثم إلى ولادته هو، وهذه مناسبة هذه الآيات لما قبلها. وأيضاً. لما قدم قبل: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} ووليه {قل أطيعوا الله والرسول} وختمها بأنه {لا يحب الكافرين} ذكر المصطفين الذين يحب اتباعهم، فبدأ أولاً بأولهم وجوداً وأصلهم، وثنى بنوح عليه السلام إذ هو آدم الأصغر ليس أحد على وجه الأرض إلاَّ من نسله، ثم أتى ثالثاً بآل إبراهيم، فاندرج فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، المأمور باتباعه وطاعته، وموسى عليه السلام، ثم أتى رابعاً بآل عمران، فاندرج في آله مريم وعيسى عليهما السلام، ونص على آل إبراهيم لخصوصية اليهود بهم، وعلى آل عمران لخصوصية النصارى بهم، فذكر تعالى جعلَ هؤلاءِ صفوة، أي مختارين نقاوة. والمعنى أنه نقاهم من الكدر. وهذا من تمثيل المعلوم بالمحسوس.
واصطفاء آدم بوجوه.
منها خلقة أول هذا الجنس الشريف، وجعله خليفة في الأرض، وإسجاد الملائكة له، واسكانه جنته، إلى غير ذلك مما شرّفه به.
واصطفاء نوح عليه السلام بأشياء، منها: أنه أول رسول بعث إلى أهل الأرض بتحريم: البنات والأخوات والعمات والخالات وسائر ذوي المحارم، وأنه أب الناس بعد آدم وغير ذلك، واصطفاء آل إبراهيم عليه السلام بأن جعل فيهم النبوّة والكتاب. قال ابن عباس، والحسن: آل إبراهيم من كان على دينه. وقال مقاتل: آله اسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط. وقيل: المراد بآل إبراهيم إبراهيم نفسه. وتقدّم لناشئ من الكلام على ذلك في قوله: {وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون}
وعمران هذا المضاف إليه: آل، قيل هو: عمران بن ماثان من ولد سليمان بن داود، وهو أبو مريم البتول أم عيسى عليه السلام، قاله: الحسن ووهب. وقيل: هو عمران أبو موسى وهارون، وهو عمران بن نصير قاله مقاتل. فعلى الأول آله عيسى، قاله الحسن وعلى الثاني آله موسى وهارون، قاله مقاتل. وقيل: المراد بآل عمران عمران نفسه، والظاهر في عمران أنه أبو مريم لقوله بعد {إذ قالت امرأة عمران} فذكر قصة مريم وابنها عيسى، ونص على أن الله اصطفاها بقوله {إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك} فقوله: {إذ قالت امرأة عمران} كالشرح لكيفية الاصطفاء، لقوله: وآل عمران، وصار نظير تكرار الاسم في جملتين، فيسبق الذهن إلى أن الثاني هو الأول، نحو: أكرم زيداً رجل صالح. وإذا كان المراد بالثاني غير الأول، كان في ذلك إلباس على السامع.
وقد رجح القول الآخر بأن موسى يقرن بإبراهيم كثيراً في الذكر، ولا يتطرق الفهم إلى أن عمران الثاني هو أبو موسى وهارون، وإن كانت له بنت تسمى مريم، وكانت أكبر من موسى وهارون سناً، للنص على أن مريم بنت عمران بن ماثان ولدت عيسى، وأن زكريا كفل مريم أم عيسى، وكان زكريا قد تزوج أخت مريم إمشاع ابنة عمران بن ماثان فكان يحيى وعيسى ابني خالة، وبين العمرانين والمريمين أعصار كثيرة. قيل: بين العمرانين ألف سنة وثمانمائة سنة.
والظاهر أن الآل من يؤول إلى الشخص في قرابة أو مذهب، والظاهر أنه نص على هؤلاء هنا في الاصطفاء للمزايا التي جعلها الله تعالى فيهم.
وذهب قاضي القضاة بالأندلس: أبو الحكم منذر بن سعيد البلوطي، رحمه الله ورضي عنه، إلى أن ذكر آدم ونوح تضمن الإشارة إلى المؤمنين من بينهما، وأن الآل الأتباع، فالمعنى أن الله اصطفى المؤمنين على الكافرين، وخص هؤلاء بالذكر تشريفاً لهم، ولأن الكلام في قصة بعضهم. انتهى ما قال ملخصاً، وقوله شبيه في المعنى بقول من تأول قوله آدم وما بعده على حذف مضاف، أي: أن الله اصطفى دين آدم.
وروي معناه عن ابن عباس، قال: المراد اصطفى دينهم على سائر الأديان، واختاره الفراء. وقال التبريزي: هذا ضعيف، لأنه لو كان ثَمَّ مضاف محذوف لكان: ونوح مجروراً، لأن آدم محله الجر بالإضافة، وهذا الذي قاله التبريزي ليس بشيء، ولولا تسطيره في الكتب ما ذكرته. لأنه لا يلزم أن يجر المضاف إليه إذا حذف المضاف، فيلزم جر ما عطف عليه، بل يعرب المضاف إليه بإعراب المضاف المحذوف. ألا ترى إلى قوله {واسأل القرية} وأما إقراره مجروراً فلا يجوز إلا بشرط ذكر في علم النحو.
{على العالمين} متعلق باصطفى، ضمنه معنى فضل، فعداه بعلى. ولو لم يضمنه معنى فضل لعدى بمن. قيل: والمعنى على عالمي زمانهم، واللفظ عام، والمراد به الخصوص كما قال جرير:
ويضحى العالمون له عيالاً ***
وقال الحطيئة:
أراح الله منك العالمينا ***
وكما تؤول في وأني فضلتكم على العالمين وقال القتبي: لكل دهر عالم، ويمكن أين يخص بمن سوى هؤلاء، ويكون قد اندرج في قوله: وآل إبراهيم محمد صلى الله عليه وسلم، فيكون المعنى: إن هؤلاء فضلوا على من سواهم من العالمين. واشتراكهم في القدر المشترك من التفضيل لا يدل على التساوي في مراتب التفضيل، كما تقول: زيد وعمر وخال أغنياء، فاشتراكهم في القدر المشترك من الغنى لا يدل على التساوي في مراتب الغنى، وإذا حملنا: العالمين، على من سوى هؤلاء، كان في ذلك دلالة على تفضيل البشر على الملائكة، لأنهم من سوى هؤلاء الصطفين، وقد استدل بالآية على ذلك. ولا يمكن حمل: العالمين، على عمومه لأجل التناقض، لأن الجمع الكثير إذا وصفوا بأن كل واحد منهم أفضل من كل العالمين، يلزم كل واحد منهم أن يكون أفضل من الآخر، وهو محال.
وقرأ عبد الله: وآل محمد على العالمين.
{ذرية بعضها من بعض} أجازوا في نصب: ذرية، وجهين:.
أحدهما: أن يكون بدلاً. قال الزمخشري {من آل إبراهيم وآل عمران} يعني أن الآلين ذرية واحدة، وقال غيره بدل من نوح ومن عطف عليه من الأسماء. قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون بدلاً من آدم لأنه ليس بذرية انتهى. وقال ابن عطية: لا يسوغ أن تقول في والد هذا ذرية لولده. وقال الراغب: الذرية يقال للواحد والجمع والأصل والنسل. كقوله: {حملنا ذريتهم} أي آباءهم، ويقال للنساء: الذراري. وقال صاحب النظم: الآية توجب أن تكون الآباء ذرية للأبناء، والابناء ذرية للآباء، وجاز ذلك لأنه من ذرأ الله الخلق، فالأب ذرئ منه الولد، والولد ذرئ من الأب. وقال معناه النقاش فعلى قول الراغب وصاحب النظم، يجوز أن يكون: ذرية، بدلاً من: آدم، ومن عطف عليه.
وأجازوا أيضاً نصب: ذرية، على الحال، وهو الوجه الثاني من الوجهين، ولم يذكره الزمخشري، وذكره ابن عطية. وقال: وهو أظهر من البدل.
وتقدّم الكلام على ذرية دلالةً واشتقاقاً ووزناً، فأغنى عن إعادته.
وقرأ زيد بن ثابت والضحاك: ذِرية، بكسر الذال، والجمهور بالضم.
{بعضها من بعض} جملة في موضع الصفة لذرية و: من، للتبعيض حقيقة أي: متشعبة بعضها من بعض في التناسل، فإن فسر عمران بوالد موسى وهارون فهما منه، وهو من يصهر، ويصهر من قاهث، وقاهث من لاوي، ولاوى من يعقوب، ويعقوب من إسحاق، وإسحاق من إبراهيم عليهم السلام. وإن فسر عمران بوالد مريم أم عيسى، فعيسى من مريم، ومريم من عمران بن ماثان، وهو من ولد سليمان بن داود، وسليمان من ولد يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم وقد دخل في آل إبراهيم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل: من، للتبعيض مجازاً أي: من بعض في الإيمان والطاعة والإنعام عليهم بالنبوّة، وإلى نحو من هذا ذهب الحسن، قال: من بعض في تناصر الدين، وقال أبوروت: بعضها على دين بعض. وقال قتادة: في النية والعمل والإخلاص والتوحيد.
{والله سميع عليم} أي سميع لما يقوله الخلق، عليم بما بضمرونه. أو: سميع لما تقوله امرأة عمران، عليم بما تقصد. أو: سميع لما تقوله الذرية، عليم بما تضمره. ثلاثة أقوال.
وقال الزمشخري: عليم بمن يصلح للاصطفاء، أو: يعلم أن بعضهم من بعض في الدين. إنتهى.
والذي يظهر أن ختم هذه الآية بقوله {والله سميع عليم} مناسب لقوله {آل إبراهيم وآل عمران} لأن إبراهيم عليه السلام دعا لآله في قوله: {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع} بقوله: {فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات}
وحمد ربه تعالى فقال: {الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق} وقال مخبراً عن ربه: {إن ربي لسميع الدعاء} ثم دعا ربه بأن يجعله مقيم الصلاة وذريته، وقال حين بنى هو واسماعيل الكعبة {ربنا تقبل منا} إلى سائر ما دعا به حتى قوله: {وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك} ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا دعوة إبراهيم» فلما تقدمت من إبراهيم تضرعات وأدعية لربه تعالى في آله وذريته، ناسب أن يختم بقوله: {والله سميع عليم} وكذلك آل عمران، دعت امرأة عمران بقبول ما كانت نذرته لله تعالى، فناسب أيضاً ذكر الوصفين، ولذلك حين ذكرت النذر ودعت بتقبله، أخبرت عن ربها بأنه {السميع العليم} أي: السميع لدعائها، العليم بصدق نيتها بنذرها ما في بطنها الله تعالى.
{إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك} الآية، لما ذكر أنه تعالى اصطفى آل عمران، وكان معظم صدر هذه السورة في أمر النصارى وفد نجران، ذكر ابتداء حال آل عمران، وامرأة عمران اسمها: حنة، بالحاء المهملة والنون المشدّدة مفتوحتين وآخرها تاء تأنيث، وهو اسم عبراني، وهي حنة بنت فاقود، ودير حنة بالشام معروف، وثم دير آخر يعرف بدير حنة، وقد ذكر أبو نواس دير حنة في شعره فقال:
يا دير حنة من ذات الاكيداح *** من يصح عنك فاني لست بالصاح
وقبر حنة، جدّة عيسى، بظاهر دمشق. وقال القرطبي: لا يعرف في العربي اسم امرأة حنة، وذكر عبد الغني بن سعيد الحافظ: حنة أم عمر ويروي حديثها ابن جريج.
ويستفاد حنة مع: حبة، بالحاء المهملة وباء بواحدة من أسفل، و: حية، بالحاء المهملة وياء باثنتين من أسفل، وهما اسمان لناس، ومع: خبة، بالخاء المعجمة والباء بواحدة من أسفل، وهي خبة بنت يحيى بن أكثم القاضي، أم محمد بن نصر، ومع: جنة بجيم ونون وهو أبو جنة خال ذي الرمة الشاعر، لا نعرف سواه.
ولم تكتف حنة بنية النذر حتى أظهرته باللفظ، وخاطبت به الله تعالى، وقدّمت قبل التلفظ بذلك نداء ها له تعالى بلفظ الرب. الذي هو مالكها ومالك كل شيء، وتقدّم معنى النذر وهو استدفاع المخوف بما يعقده الإنسان على نفسه من أعمال البر. وقيل: ما أوجبه الإنسان على نفسه بشريطة وبغير شريطة. قال الشاعر:
فليت رجالا فيك قد نذروا دمي *** وهموا بقتلي يا بثين لفوني
و: لك، اللام فيه لام السبب، وهو على حذف التقدير: لخدمة بيتك، أو للاحتباس على طاعتك. {ما في بطني} جزمت النذر على تقدير أن يكون ذكراً، أو لرجاء منها أن يكون ذكراً.
{محرراً} معناه عتيقاً من كل شغل من أشغال الدنيا، فهو من لفظ الحرية. قال محمد بن جعفر بن الزبير: أو خادماً للبيعة.
قاله مجاهد، أو: مخلصاً للعبادة، قاله الشعبي. ورواه خصيف عن عكرمة، ومجاهد، وأتى بلفظ: ما، دون: من، لأن الحمل إذ ذاك لم يتصف بالعقل، أو لأن: ما، مبهمة تقع على كل شيء، فيجوز أن تقع موقع: من. ونسب هذا إلى سيبويه.
{فتقبل مني} دعت الله تعالى بأن يقبل منها ما نذرته له، والتقبل أخذ الشيء على الرضا به، وأصله المقابلة بالجزاء، و: تقبل، هنا بمعنى: قبل، فهو مما تفعل فيه بمعنى الفعل المجرد، كقولهم: تعدى الشيء وعدّاه، وهو أحد المعاني التي جاءت لها تفعل.
{إنك أنت السميع العليم} ختمت بهذين الوصفين لأنها اعتقدت النذر، وعقدته بنيتها، وتلفظت به، ودعت بقبوله. فناسب ذلك ذكر هذين الوصفين.
والعامل في: إذ، مضمر تقديره: أذكر، قاله الأخفش، والمبرد، أو معنى الاصطفاء، التقدير: واصطفى آل عمران. قاله الزجاج، وعلى هذا يجعل {وآل عمران} من باب عطف الجمل لا من باب عطف المفردات، لأنه إن جعل من باب عطف المفردات لزم أن يكون العامل فيه اصطفى آدم، ولا يسوغ ذلك لتغاير زمان هذا الاصطفاء، وزمان قول امرأة عمران، فلا يصح عمله فيه.
وقال الطبري ما معناه: إن العامل فيه: سميع، وهو ظاهر قول الزمخشري، أو: سميع عليم، لقول امرأة عمران ونيتها، و: إذ، منصوب به. انتهى. ولا يصح ذلك لأن قوله: عليم، إما ان يكون خبراً بعد خبر، أو وصفاً لقوله: سميع، فإن كان خبراً فلا يجوز الفصل به بين العامل والمعمول لأنه أجنبي منهما، وإن كان وصفاً فلا يجوز أن يعمل: سميع، في الظرف، لأنه قد وصف. اسم الفاعل وما جرى مجراه إذا وصف قبل أخذ معموله لا يجوز له إذ ذاك أن يعمل على خلاف لبعض الكوفيين في ذلك، ولأن اتصافه تعالى: بسميع عليم، لا يتقيد بذلك الوقت.
وذهب أبو عبيدة إلى أن إذ زائدة، المعنى: قالت امرأة عمران. وتقدّم له نظير هذا القول في: مواضع، وكان أبو عبيدة يضعف في النحو.
وانتصب محرراً، على الحال. قيل: من ما، فالعامل: نذرات وقيل من الضمير الذي في: استقر، العامل في الجار والمجرور، فالعامل في هذا: استقر، وقال مكي فمن نصبه على النعت لمفعول محذوف يقدّره: غلاماً محرراً. وقال ابن عطية: وفي هذا نظر، يعني أن: نذر، قد أخذ مفعوله، وهو: ما في بطني، فلا يتعدّى إلى آخره، ويحتمل أن ينتصب: محرراً، على أن يكون مصدراً في معنى: تحريراً، لأن المصدر يجوز أن يكون على زنة المفعول من كل فعل زائد على الثلاثة، كما قال الشاعر:
ألم تعلم مسرحي القوافي *** فلا عياً بهنّ ولا اجتلابا
التقدير: تسريحي القوافي، ويكون إذ ذاك على حذف مضاف، أي: نذر تحرير، أو على أنه مصدر من معنى: نذرت، لأن معنى: {نذرت لك ما في بطني} حررت لك بالنذر ما في بطني.
والظاهر القول الأول، وهو أن يكون حالاً من: ما، ويكون، إذ ذاك حالاً مقدّرة إن كان المراد بقوله: محرراً، خادماً للكنيسة، وحالاً مصاحبة إن كان المراد عتيقاً، لأن عتق ما في البطن يجوز.
وكتبوا: امرأة عمران، بالتاء لا بالهاء، وكذلك امرأة العزيز في موضعين، وامرأة نوح، وامرأة لوط، وامرأة فرعون. سبعة مواضع، فأهل المدينة يقفون بالتاء اتباعاً لرسم المصحف مع أنها لغة لبعض العرب يقفون على طلحة طلحت، بالتاء. ووقف أبو عمرو، والكسائي: بالهاء ولم يتبعوا رسم المصحف في ذلك، وهي لغة أكثر العرب، وذكر المفسرون سبب هذا الحمل الذي اتفق لامرأة عمران فروي أنها كانت عاقراً، وكانوا أهل بيت لهم عند الله مكانة، فبينا هي يوماً في ظل شجرة نظرت إلى طائر يذق فرخاً له، فتحركت به نفسها للولد، فدعت الله تعالى أن يهب لها ولداً. فحملت. ومات عمران زوجها وهي حامل، فحسبت الحمل ولداً فنذرته لله حبيساً لخدمة الكنيسة أو بيت المقدس، وكان من عادتهم التقرب بهبة أولادهم لبيوت عباداتهم، وكان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وملوكهم وأحبارهم، ولم يكن أحد منهم إلاَّ ومن نسله محرر لبيت المقدس من الغلمان، وكانت الجارية لا تصلح لذلك، وكان جائزاً في شريعتهم، وكان على أولادهم أن يطيعوهم، فإذا حرر خدم الكنيسة بالكنس والإسراج حتى يبلغ، فيخير، فإن أحب أن يقيم في الكنيسة أقام فيها، وليس له الخروج بعد ذلك، وإن أحب أن يذهب ذهب حيث شاء، ولم يكن أحد من الأنبياء والعلماء إلاَّ ومن نسله محرر لبيت المقدس.
{فلما وضعتها قالت ربّ إني وضعتها أنثى} أنث الضمير في وضعتها حملاً على المعنى في: ما، لأن ما في بطنها كان أنثى في علم الله تعالى وقال ابن عطية: حملاً على الموجدة، ورفعاً للفظ: ما، في قولها: ما في بطني. وقال الزمخشري: أو على تأويل الجبلة، أو النفس، أو النسمة. جواب: لما، هو: قالت وخاطبت ربها على سبيل التحسر على ما فاتها من رجائها، وخلاف ما قدّرت لأنها كانت ترجو أن تلد ذكراً يصلح للخدمة، ولذلك نذرته محرراً. وجاء في قوله: {إني وضعتها} الضمير مؤنثاً، فإن كان على معنى النسمة أو النفس فظاهر، إذ تكون الحال في قوله: أنثى، مبينة إذا النسمة والنفس تنطلق على المذكر والؤنث.
وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز انتصاب أنثى حالاً من الضمير في وضعتها؛ وهو كقولك: وضعت الأنثى أنثى؟.
قلت: الأصل وضعته أنثى، وإنما أنث لتأنيث الحال لأن الحال، وذا الحال شيء واحد، كما أنث الأسم في من كانت أمّك لتأنيث الخبر، ونظيره قوله تعالى: {فإن كانتا اثنتين} إنتهى. وآل قوله إلى أن: أنثى، تكون حالاً مؤكدة، لا يخرجه تأنيثه لتأنيث الحال من أن يكون الحال مؤكدة.
وأما تشبيهه ذلك بقوله: من كانت أمّك، حيث عاد الضمير على معنى: من، فليس ذلك نظير: وضعتها أنثى، لأن ذلك حمل على معنى: من، إذ المعنى: أية امرأة، كانت امّك، أي: كانت هي أيّ المرأة أمّك، فالتأنيث ليس لتأنيث الخبر، وإنما هو من باب الحمل على معنى: من، ولو فرضنا أنه تأنيث للأسم لتأنيث الخبر لم يكن نظير: وضعتها أنثى، لأن الخبر مخصص بالإضافة إلى الضمير، فقد استفيد من الخبر ما لا يستفاد من الاسم بخلاف أنثى، فإنه لمجرد التأكيد.
وأما تنظيره بقوله: {فإن كانتا اثنتين} فيعنى أنه ثنى بالأسم لتثنية الخبر، والكلام عليه يأتي في مكانه، فإنه من المشكلات، فالأحسن أن يجعل الضمير في: وضعتها أنثى، عائداً على النسمة، أو النفس، فتكون الحال مبنية لا مؤكدة.
وقيل: خاطبت الله تعالى بذلك على سبيل الاعتذار، والتنصل من نذر ما لا يصلح لسدانة البيت، إذ كانت الأنثى لا تصلح لذلك في شريعتهم.
وقيل: كانت مريم أجمل نساء زمانها وأكملهنّ.
{والله أعلم بما وضعت} قرأ ابن عامر، وأبو بكر، ويعقوب: بضم التاء، ويكون ذلك وما بعده من كلام أمّ مريم، وكأنها خاطبت نفسها بقولها: والله أعلم. ولم تأت على لفظ: رب، إذ لو أتت على لفظه لقالت: وأنت أعلم بما وضعت. ولكن خاطبت نفسها على سبيل التسلية عن الذكر، وأن علم الله وسابق قدرته وحكمته يحمل ذلك على عدم التحسر والتحذر على ما فاتنى من المقصد، إذ مراده ينبغي أن يكون المراد، وليس الذكر الذي طلبته ورجوته مثل الأنثى التي علمها وأرادها وقضى بها. ولعل هذه الأنثى تكون خيراً من الذكر، إذ أرادها الله، سلت بذلك نفسها.
وتكون: الألف واللام في: الذكر، للعهد فيكون مقصودها ترجيح هذه الأنثى التي هي موهوبة الله على ما كان قد رجت من أنه يكون ذكراً، ويحتمل أن يكون مقصودها أنه ليس كالأنثى في الفضل والدرجة والمزية، لأن الذكر يصلح للتحرير، والاستمرار على خدمة موضع العبادة، ولأنه أقوى على الخدمة، ولا يلحقه عيب في الخدمة والاختلاط بالناس ولا تهمة.
قال ابن عطية: كالانثى، في امتناع نذره إذا الأنثى تحيض ولا تصلح لصحبة الرهبان؟ قاله قتادة، والربيع، والسدّي، وعكرمة، وغيرهم. وبدأت بذكر الأهمّ في نفسها، وإلاَّ فسياق الكلام أن تقول: وليست الانثى كالذكر، فتضع حرف النفي مع الشيء الذي عندها، وانتفت عنه صفات الكمال للغرض المراد. إنتهى. وعلى هذا الاحتمال تكون الألف واللام في: الذكر، للجنس.
وقرأ باقي السبعة: بما وضعت، بتاء التأنيث الساكنة على أنه إخبار من الله بأنه أعلم بالذي وضعته. أي: بحاله، وما يؤول إليه أمر هذه الأنثى، فإن قولها: وضعتها أنثى، يدل على أنها لم تعلم من حالها إلاَّ على هذا القدر من كون هذه النسمة جاءت أنثى لا تصلح للتحرير، فأخبر تعالى أنه أعلم بهذه الموضوعة، فأتى بصيغة التفضيل المقتضية للعلم بتفاصيل الأحوال، وذلك على سبيل التعظيم لهذه الموضوعة، والإعلام بما علق بها وبابنها من عظيم الأمور، إذ جعلها وابنها آية للعالمين.
ووالدتها جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئاً. وقرأ ابن عباس: بما وضعت، بكسر تاء الخطاب، خاطبها الله بذلك أي: إنك لا تعلمين قدر هذه الموهوبة، وما علمه الله تعالى من عظم شأنها وعلوّ قدرها.
و: ما، موصولة بمعنى: الذي، أو: التي، وأتى بلفظ: ما، كما في قوله: {نذرت لك ما في بطني} والعائد عليها محذوف على كل قراءة.
{وإني سميتها مريم} مريم في لغتهم معناه: العابدة، أرادت بهذه التسمية التفاؤل لها بالخير، والتقرب إلى الله تعالى، والتضرّع إليه بأن يكون فعلها مطابقاً لاسمها، وأن تصدّق فيها ظنها بها. ألا ترى إلى إعاذتها بالله وإعاذة ذريتها من الشيطان؟ وخاطبت الله بهذا الكلام لترتب لاستعاذة عليه، واستبدادها بالتسمية يدل على أن أباها عمران كان قد مات، كما نقل أنه مات وهي حامل، على أنه يحتمل من حيث هي أنثى أن تستبدّ الأمّ بالتسمية لكراهة الرجال البنات، وفي الآية تسمية الطفل قرب الولادة، وفي الحديث: «ولد لي الليلة مولود فسميته باسم أبي إبراهيم» وفي الحديث أنه: «يعق عن المولود في السابع ويسمى».
وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها من كلامها، وهي كلها داخله تحت القول على قراءة من قرأ: بما وضعت، بضم التاء. وأما من قرأ: بما وضعت، بسكون التاء أو بالكسر. فقال الزمخشري: هي معطوفة على: إني وضعتها أنثى، وما بينهما جملتان معترضان، كقوله: {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} إنتهى كلامه. ولا يتعين ما ذكر من أنهما جملتان معترضتان، لأنه يحتمل أن يكونه {وليس الذكر كالأنثى} في هذه القراءة من كلامها، ويكون المعترض جملة واحدة، كما كان من كلامها في قراءة من قرأ: وضعت، بضم التاء، بل ينبغي أن يكون هذا المتعين لثبوت كونه من كلامها في هذه القراءة، لأن في اعتراض جملتين خلافاً مذهب أبي علي: أنه لا يعترض جملتان وقد تقدّم لنا الكلام على ذلك.
وأيضاً تشبيهه هاتين الجملتين اللتين اعترض بهما بين المعطوف والمعطوف عليه على زعمه بقوله: {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} ليس تشبيهاً مطابقاً للآية، لأنه لم يعترض جملتان بين طالب ومطلوب، بل اعترض بين القسم الذي هو: {فلا أقسم بمواقع النجوم} وجوابه الذي هو: {إنه لقرآن كريم} بجملة واحدة وهي قوله: {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} لكنه جاء في جملة الاعتراض بين بعض أجزائه وبعض، اعتراض بجملة وهي قوله: {لو تعلمون} اعترض به بين المنعوت الذي هو: لقسم، وبين نعته الذي هو: عظيم، فهذا اعتراض في اعتراض، فليس فصلاً بجملتي اعتراض لقوله: {والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى} وسمي من الأفعال التي تتعدى إلى واحد بنفسها، وإلى آخر بحرف الجر، ويجوز حذفه واثباته هو الأصل، يقول سميت ابني بزيد، وسميته زيداً.
قال:
وسميت كعباً بشر العظام *** وكان أبوك يسمى الجعل
أي: وسميت بكعب، ويسمى: بالجعل، وهو باب مقصور على السماع، وفيه خلاف عن الأخفش الصغير، وتحرير ذلك في علم النحو.
{وإني أعيذها بك وذرّيتها من الشيطان الرجيم} أتى خبر: إن، مضارعاً وهو: أعيذها، لأن مقصودها ديمومة الإستعاذة، والتكرار بخلاف: وضعتها، وسميتها، فإنهما ماضيان قد انقطعا، وقدّمت ذكر المعاذ به على المعطوف على الضمير للأهتمام به، ثم استدركت بعد ذلك الذكر ذريتها، ومناجاتها الله بالخطاب السابق إنما هو وسيلة إلى هذة الاستعاذة، كما يقدّم الانسان بين يدى مقصوده ما يستنزل به إحسان من يقصده، ثم يأتي بعد ذلك بالمقصود، وورد في الحديث، من رواية أبي هريرة: «كل مولولد من بني آدم له طعنة من الشيطان، وبها يستهل الصبي، إلاَّ ما كان من مريم ابنة عمران وابنها، فإن أمّها قالت حين وضعتها: واني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم. فضرب بينهما حجاب فطعن الشيطان في الحجاب».
وقد اختلفت ألفاظ هذا الحديث من طرق، والمعنى واحد. وطعن القاضي عبد الجبار في هذا الحديث، قال: لأنه خبر واحد على خلاف الدليل، فوجب رده، وإنما كان على خلاف الدليل لأن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من يعرف الشر والخير، والصبي ليس كذلك، ولأنه لو تمكن من هذا المس لفعل أكثر من ذلك من إهلاك الصالحين وغير ذلك، لأنه خص فيه مريم وابنها عيسى دون سائر الأنبياء، ولأنه لو وجد المس لنفي أثره، ولو نفي لدام الصراخ والبكاء، فلما لم يكن كذلك علمنا بطلان هذا الحديث.
وقال الزمخشري: وما يروي في الحديث: «ما من مولولد يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إياه إلاَّ مريم وابنها» فالله أعلم بصحته، فإن صح فمعناه: أن كل مولود يطمع الشيطان في اغوائه إلاَّ مريم وابنها، فإنهما كانا معصومين. وكذلك كل من كان صفتهما لقوله: {لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} واستهلاله صارخاً من مسه، تخييل وتصوير لطمعه فيه كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ويقول: هذا ممن أغويه، ونحوه من التخييل قول ابن الرومي:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها *** يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وأما حقيقة المس والنخس كما يتوهم أهل الحشو فكلا، ولو سلط إبليس على الناس بنخسهم لامتلأت الدنيا صراخاً وعياطاً مما يبلونا به من نخسه. إنتهى كلامه. وهو جار على طريقة أهل الاعتزال، وقد مر لنا شيء من الكلام على هذا في قوله: {كالذي يتخبطه الشيطان من المس}
{فتقبلها ربها بقبول حسن} قال الزجاج: الأصل فتقبلها بتقبل حسن، ولكن قبول محمول على: قبلها قبولاً، يقال: قبل الشيء قبولاً والقياس فيه الضم: كالدخول والخروج، ولكنه جاء بالفتح، وأجاز الفراء والزجاج ضم القاف، ونقلها ابن الأعرابي فقال: قبلته قَبولاً وقُبولاً. وقال ابن عباس: معناه سلك بها طريق السعداء وقال قوم: تكفل بتربيتها والقيام بشأنها. وقال الحسن: معناه لم يعذيها ساعة قط من ليل ولا نهار وعلى هذه الأقوال يكون تقبل بمعنى استقبل، فيكون تفعل بمعنى استفعل، أي: استقبلها ربها، نحو: تعجلت الشيء فاستعجلته، وتقصيت الشيء واستقصيته، من قولهم: استقبل الأمر أي أخذه بأوله. قال:
وخير الأمر ما استقبلت منه *** وليس ببأن تتبعه اتباعاً
أي فأخذها في أول أمرها حين ولدت. وقيل: المعنى فقبلها أي: رضى بها في النذر مكان الذكر في النذر كما نذرت أمها وسنى لها الأمل في ذلك، وقبل دعاءها في قولها: فتقبل مني إنك أنت السميع العليم، ولم تقبل أنثى قبل مريم في ذلك، ويكون: تفعل، بمعنى الفعل المجرد نحو: تعجب وعجب، وتبرأ وبريء.
والباء في: بقبول، قيل: زائدة، ويكون إذ ذاك ينتصب انتصاب المصدر على غير الصدر، وقيل: ليست بزائدة.
والقبول اسم لما يقبل به الشيء: كالسعوط واللدود لما يسعط به ويلد، وهو اختصاصه لها باقامتها مقام الذكر في النذر، أو: مصدر على تقدير حذف مضاف أي: بذي قبول حسن، أي: بأمر ذي قبول حسن، وهو الاختصاص.
{وأنبتها نباتاً حسناً} عبارة عن حسن النشأة والجودة في خلق وخلق، فأنشأها على الطاعة والعبادة. قال ابن عباس: لما بلغت تسع سنين صامت من النهار وقامت الليل حتى أربت على الأحبار. وقيل: لم تجر عليها خطيئة. قال قتادة: حُدِّثنا أنها كانت لا تصيب الذنوب كما يصيب بنو آدم. وقيل: معنى {وأنبتها نباتاً حسناً} أي: جعل ثمرتها مثل عيسى.
وانتصب: نباتاً، على أنه مصدر على غير الصدر، أو مصدر لفعل

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8